يا أيها القاضي

 

العلاقات الإنسانية تتطلب العديد من المبادئ و المهارات للمحافظة عليها و على استقرارها و بقاءها. فالبعض يعتقد أنّ الأصل في العلاقات الإنسانية هي الأبدية أي بأنْ يكون لعلاقاته بداية بلا نهاية . و هناك من يؤمن أنّ طبيعة العلاقات كالأطعمة لها تاريخ صلاحية، تبدأ بيوم و لابد من أن يأتي يوم و تنتهي

الناس نماذج مختلفة و كل فئة لها منظورها الخاص فيها و مفهومها المختلف. هناك نموذج يهتم جدا و يحترم العلاقات الإنسانية و لا يفرط بها بسهولة و يبذل كل ما في وسعه حتى تبقى على قيد الحياة، و في أسوء الحالات يضع العلاقة تحت الدراسة ليعيد رسم حدودها حتى يخرج بأقل الخسائر الممكنة. بينما نموذج آخر يرى أنْ لا بأس بِبَتر بعض العلاقات فالناس “على أفا من يشيل” و إيجاد البديل سهل و الحياة مستمرة لا تقف على أحد

أيّا كان النموذج الذي تنتمي إليه سواء الأول أم الثاني أم نموذج ثالث فلا بأس بذلك. و لا حرج من أنْ تنتقل من نموذج لِآخر حسب ظروفك و نضجك و وعيك. فكل علاقة لها أثر في حياتنا و تجعلنا ندرك الأمور بطريقة مختلفة فهي مسألة وقت فقط لا غير

لنتفق على حقيقة و هي أنّ أيّا كانت طبيعة نظرتك للعلاقات الإنسانية و الإجتماعية بكلا الأحوال دائما نحتاج لبعض المهارات الخاصّة التي تساعدنا في بناء تواصل قوي مع الآخرين و استمرارنا معهم

أحد المتطلبات التي أعتقد من وجهة نظري الشخصية و المتواضعة أنها مهمة لهذا البناء هي “الحيادية” في علاقاتنا، كيف ذلك؟

العلاقات دائما مليئة بالتحديات فهي بين مد و جزر. من منا لم تمر علاقته بالآخرين ببعض ” المطبات” ؟! فهذا الأمر طبيعي للغاية. لكن المشكلة تكمن حينما نعتقد أنّ “الانحياز” لطرف دون الآخر- أحيانا- هو الحل و المركب الذي سيأخذنا إلى بر الأمان

من منا لم يكن طرف ثالث يوما ما؟!.أن تكون طرف ثالث لحل مشكلة ليس بالأمر اليسير ، خاصة و إن كانت تجمعك علاقة طيبة أو سيئة بأحد الأطراف أو كلاهما

من يسعى لإيجاد الحلول هو من يسعى للخير و لمنفعة الجميع لذا لابد من أنْ يكون حيادي و لا ينحاز لطرف و يظلم الآخر و لابد كذلك من أن يتجرد من مشاعره و عاطفته “مؤقتا”. ففي هذا الوقت تحديدا و في هذا الموقف يكون الطرف الثالث “كالقاضي” الذي لابد له من أن يجتهد و ينصف الآخرين بحكمه. فعندما تحكم بعقلانية-مجرد من العواطف- تكون أنصفت المظلوم و نبهت المخطئ على سلوكه. فهل تساءلت يوما “يا أيها القاضي” كم من مرة حكمت فيها فأصبت؟! و كم من مرة حكمت فيها فظلمت؟! هل مطرقة حكمك سليمة أم بها اعوجاج؟

البعض يعتقد أنّ “الانحياز” دليل محبة أحيانا و هذا خطأ كبير و فادح. فهو مثل الذي يرى حبيبه في نفق مظلم فيتركه في ذلك النفق متعلّلا بحمايته

الحب و الاهتمام يكون بأخذ يد الحبيب و انتشاله من وحل الأخطاء و مساندته لتجاوز كل الصعاب و التحديات و توجيهه و دفعه باتجاه مواجهة اخفاقاته لإصلاحها

أما أن تنحاز للمخطئ و أنت تدرك تماما أنه على خطأ فهذا أمر يدعوا للشفقة و الأفضل هو الابتعاد عن هذا الدور حتى لا تظلم نفسك و الآخرين. فابتعادك أو هروبك -أحيانا- مخافة ظلم أحد أمر جدير بالاحترام. فلا تخذل من أنت قادر على نصرته

 انحيازك “يا أيها القاضي” بحد ذاته مشكلة تتطلب الحل. لذا من الأفضل أن تجتهد بحل مشكلتك قبل أنْ “تودّر” الآخرين. فكم  علاقة أَنهيت أو كم شرخا أَحدثت بسبب انحيازك؟!. تذكر دائما أن لكل زرع يوم حصاد، فاجتهد اليوم بزرع ما تحب أن تستمتع بحصاده غدا و “خلك دايما محضر خير”. و كلما هممت بطرق مطرقة الحكم استرجع قوله تعالى: ” يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ…(38) ” سورة ص

كتاب أنصح بقراءته 1

 يتطرق الكاتب في كتابه -المكون من 248 صفحة-الىكيفية و أهمية انجاح العلاقات الانسانية و ما هي الأسس التي تساعدنا على بناء مثل تلك العلاقات من منظور اجتماعي و شرعي و بالتالي نحافظ على بقاء تلك العلاقات لتكون أبدية لا مؤقته ، و لتكون مصدر راحة لا عناء و مشقة. ا

ينقسم الكتاب لثلاثة فصول ، فالفصل الأول يتناول موضوع طبيعة الفرد و المجتمعات بشكل عام و فكرة التعايش فيها . ثم ينتقل بالفصل الثاني للتحدث حول الضوابط و الحدود الفردية و يختمها بالفصل الأخير للتطرق الى الضوابط و الحدود الإجتماعية.ا

استفدت كثيرا من قراءتي لمثل هذا الكتاب و تغيرت نظرتي لبعض الأمور. بعض الأفكار تحتاج للتدريب لتغيير بعض العادات السلوكية حتى نتمكن من تطوير بعض مهاراتنا في التواصل و التعايش مع الآخرين.ا
WIN_20170807_01_37_20_Pro

قابل للتغيير

لكل إنسان حاجات أساسية مختلفة تساعده في التكيف مع الآخرين والتعايش معهم منها حاجته للاحترام والقبول. فإشباع تلك الحاجة تساعد على اندماج الأفراد مع بعضهم البعض، وتعزز من استقرار العلاقات واستمرارها. فاحترام وقبول الآخر كما هو بأفكاره ومعتقداته و توجهاته أمر لابد منه في أي مجتمع متعدد و تكثر فيه الاختلافات في جميع الجوانب.
و لكن مع الأسف في مجتمعنا هناك من لا يقبل اختلاف الآخرين عنه فيسعى و يصر على إهدار أيام عمره بمحاولات بائسة لتغيير أفكارهم و سلوكياتهم بشتى الطرق مجتهداً في تأسيس مجموعة يتبعونه و ينصاعون لأوامره. معتقداً أن كلمة “حاضر” و” إن شاء الله ”  هي سر سعادته و راحة باله.

متناسياً أنقابل للتغيير الاختلاف يثري المجتمع وينميه وكذلك يساعد الإنسان ويقوده إلى البحث والتفكر والاستزادة من مصادر مختلفة و الاستفادة من خبرات الغير.

فالمشكلة الحقيقية لا تكمن في الاختلاف بحد ذاته فهو سنة الحياة، بل برغبتنا في مصادرة حق الآخرين في اختيار أفكارهم و توجهاتهم.

فكم منا من يبذل قصارى جهده لفرض أفكاره وآراءه على زميل أو أخ أو ابن أو زوجة أو صديق بحجج مختلفة؟ وكم منا يستغل سلطته أو نفوذه أو حتى كِبر سنه لإخضاع الآخرين لرغباته؟

كل تلك المحاولات لا تعكس أي نوع من احترام وقبول الآخر. وعلينا أن نعي أنّ الاختلاف ممكن أن يقودنا إلى التخلف إن لم ندرك أهميته ونوظفه لصالحنا ومنفعتنا.

فلو دقق كل واحد فينا في حياته اليومية لوجد أنه يُؤثر ويتأثر. وكلما زاد قبوله لاختلاف الآخرين اتسعت دائرة تأثيره عليهم. فلا مانع من فكرة التأثير على الآخرين  وتغييرهم للأفضل ولكن يكون بـ :

الحوار والاقناع
القدوة بالأفعال
سعة الصدر والصبر
فالكل “قابل للتغيير”، و لن تجد شخص عاش حياته من المهد إلى اللحد بنفس الشخصية و الأفكار و المعتقدات، هي فقط مسألة وقت .أما الاستهزاء والتقليل من شأن الغير واستصغارهم لن يغيّر أبدا أو سيغيّر للأسوء .فأفراد الأسرة والمجتمع بأمس الحاجة لثقافة الاحترام و القبول.

هل تساءلنا يوما إن كنا نجرأ في أي وقت على طرح جميع أفكارنا؟ هل نقبل الحوار مع من يخالفنا؟ أم بمجرد ظهور الاختلاف تبدأ الأصوات بالارتفاع ويبدأ التراشق بالكلمات؟ هل بيئتنا محفزة لتقبل واحترام الآخر؟ هل نحن واعين بأهمية قبول الآخر كما هو؟ هل ندرك أنّ القبول لا يعني بالضرورة تبني وتأييد الطرف الآخر؟ هل نعي أنّ الآخر واقع يجب أن نتعايش معه لا أن نلغيه؟ هل ندرك مدى خطورة محاولة طمس الاخرين وتكميم أفواههم؟

إن كنت حراً بأفكارك وتوجهاتك، فالآخرين كذلك. وإن كنت ممن يلغي الآخرين فاعلم أنك آخر بالنسبة لهم، فإلغائك محتمل.